فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ}.
لا يُحكم عليهم بموتٍ ثانٍ {فَيَمُوتُواْ} ويستريحُوا. ونصبُه بإضمارِ أنْ وقُرئ فيموتونَ عطفًا على يقضي كقوله تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} بل كلَّما خبتْ زيد إسعارُها {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الجزاءِ الفظيعِ {نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} مبالغٍ في الكفرِ أو الكفرانِ لا جزاء أخف وأدنى منه. وقُرئ يُجزى على البناءِ للمفعولِ وإسناده إلى الكلِّ وقرىء يجازى.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثُون. والاصطراخُ افتعالٌ من الصُّراخِ استُعمل في الاستغاثةِ لجهد المستغيثِ صوتَه {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} بإضمارِ القولِ وتقييدِ العملِ الصَّالحِ بالوصفِ المذكورِ للتَّحسرِ على ما عملوه من غيرِ الصَّالحِ والاعترافِ به والإشعارِ بأنَّ استخراجَهم لتلافيهِ وأنَّهم كانُوا يحسبونه صالحًا والآنَ تبيَّن خلافُه. وقولُه تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جوابٌ من جهتِه تعالى وتوبيخٌ لهم. والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ. ومَا نكرةٌ موصوفةٌ أي ألم نمهلْكُم أو ألم نؤخرْكُم ولم نعمْركُم عمرًا يتذكَّرُ فيه من تذكَّر أي يتمكَّنُ فيه المتذكرُ من التَّذكُّرِ والتَّفكُّرِ. قيل هو أربعون سنةً وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ستُّون سنة ورُوي ذلك عن: عليَ رضي الله عنه وهو العُمر الذي أعذرَ الله فيه إلى ابنِ آدَم قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أعذرَ الله إلى امرىءٍ أخَّر أجلَه حتَّى بلغَ ستِّين سنة». وقولُه تعالى: {وَجَاءكُمُ النذير} عطفٌ على الجملةِ الاستفهاميةِ لأنَّها في معنى قد عمَّرناكم كما في قوله تعالى: {ألم نشرحْ لك صدرَك ووضعنا} الخ لأنَّه في معنى قد شرحنا الخ والمرادُ بالنَّذيرِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو ما معه من القُرآن وقيل: العقلُ وقيل: الشَّيبُ وقيل: موتُ الأقاربِ. والاقتصارُ على ذكرِ النَّذيرِ لأنَّه الذي يقتضيهِ المقامُ. والفاءُ في قوله تعالى: {فذوقُوا} لترتيبِ الأمرِ بالذَّوقِ على ما قبلها التَّعميرِ ومجيءِ النَّذيرِ. وفي قولِه تعالى: {فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} للتَّعليلِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ} أي لا يحكم عليهم بموت ثان {فَيَمُوتُواْ} ليستريحوا بذلك من عذابها بالكلية وإنما فسر لا يقضي بما ذكر دون لا يموتون لئلا يلغوا فيموتوا ويحتاج إلى تأويله بيستريحوا.
ونصب يموتوا في جواب النفي بإضمار أن والمراد انتفاء المسبب لانتفاء السبب أي ما يكون حكم بالموت فكيف يكون الموت.
وقرأ عيسى والحسن {فيموتون} بالنون عطفًا كما قال أبو عثمان المازني على {والله يَقْضِى} كقوله تعالى: {لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 6 3] أي لا يقضي عليهم ولا يموتون {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} المعهود لهم بل كلما خبت زيد إسعارها، والمراد دوام العذاب فلا ينافي تعذيبهم بالزمهرير ونحوه، ونائب فاعل يخفف {عَنْهُمْ} ومن عذابها في موضع نصب ويجوز العكس، وجوز أن تكون من زائدة فيتعين رفع مجرورها على أنه النائب عن الفاعل على ما قال أبو البقاء.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {وَلاَ يُخَفَّفُ} بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب

{كذلك} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع {نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه.
وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع {يَجْزِى} بالياء مبنيًا للمفعول و{كُلٌّ} بالرفع على النيابة عن الفاعل وقرىء {نجازي} بنون مضمومة وألف بعد الجيم.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} افتعال من الصراخ وهو شدة الصياح والأصل يصترخون فأبدلت التاء طاء ويستعمل كثيرًا في الاستغاثة لأن المستغيث يصيح غالبًا، وبه فسره هنا قتادة فقال: يستغيثون فيها، واسغاثتهم بالله عز وجل بدليل ما بعده وقيل ببعضهم لحيرتهم وليس بذاك.
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} بإضمار القول أي ويقولون بالعطف أو يقولون بدونه على أنه تفسير لما قبله أو قائلين على أنه حال من ضميرهم، وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه فهو وصف مؤكد ولأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا فكأنهم قالوا: نعمل صالحًا غير الذي كنا نحسبه صالحًا فنعمله فالوصف مقيد.
وذكر أبو البقاء {أَنَّ صالحا وَغَيْرُ الذى} يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول محذوف وأن يكون {صالحا} نعتًا لمصدر و{غَيْرَ الذى} مفعول {نَعْمَلْ} وأيًا ما كان فالمراد أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا نعمل صالحًا وكأنهم أرادوا بالعمل الصالح التوحيد وامتثال أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد له، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: {نَعْمَلْ صالحا} نقل لا إله إلا الله {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم في الآخرة حين يقولون {رَبَّنَا} الخ فهو بتقدير فنقول لهم أو فيقال لهم {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ} الخ، وفي بعض الآثار أنهم يجابون بذلك بعد مقدار الدنيا، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما موصولة أو موصوفة أي ألم نمهلكم ونعمركم الذي أي العمر الذي أو عمرًا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه من أراد التذكر وتحققت منه تلك الإرادة من التذكر والتفكر.
وقال أبو حيان: ما مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم في مدة تذكر، وتعقب بأن ضمير {فِيهِ} يأباه لأنها لا يعود عليها ضمير إلا على نظر الأخفش فإنه يرى اسميتها وهو ضعيف، ولعله يجعل الضمير للعمر المفهوم من {نعمر} وفيه بعد.
وجعل ما نافية لا يصح كما قال ابن الحاجب لفظًا ومعنى، وهذا العمر على ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه جماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس ستون سنة، وقد أخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله تعالى إلى امرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة؛ وقيل: هو خمسون سنة» وفي رواية عن ابن عباس «أنه ست وأربعون سنة».
وأخرج عبد بن حميد وابن حاتم عن الحسن أنه أربعون سنة، وفي رواية أخرى عنه أنه سن البلوغ، وقيل: سبع عشرة سنة، وعن قتادة ثمان عشرة سنة، وعن عمر بن عبد العزيز عشرون سنة، وعن مجاهد مابين العشرين إلى الستين، وقرأ الأعمش {مَا يُذْكَرُ فِيهَا مِنْ اذكر} بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظًا بها في الدرج {وَجَاءكُمُ النذير} عطف على معنى الجملة الاستفهامية فكأنه قيل: عمرناكم وجاءكم النذير فليس من عطف الخبر على الإنشاء كما في قوله تعالى: {ألم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 1، 2] وجوز أن يكون عطفًا على {نُعَمّرْكُمْ} ودخول الهمزة عليهما فلا تغفل.
والمراد بالنذير على ما روى عن السدي وابن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما معه من القرآن، وقال أبو حيان: المراد جنس النذير وهم الأنبياء عليهم السلام فكل نبي نذير أمته، ويؤيده أنه قرئ {النذر} جمعًا، وعن ابن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبرسي هو الشيب، وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدى فقد قرب الموت، ومن هنا قيل:
رأيت الشيب من نذر المنايا ** لصاحبه وحسبك من نذير

وقائلة تخضب يا حبيبي ** وسود شعر شيبك بالعبير

فقلت لها المشيب نذير عمري ** ولست مسودًا وجه النذير

وقيل: الحمى، وقيل: موت الأهل والأقارب، وقيل: كمال العقل، والاقتصار على النذير لأنه الذي يقتضيه المقام، والفاء في قوله تعالى: {فَذُوقُواْ} لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير، وفي قوله سبحانه: {فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} للتعليل، والمراد بالظلم هنا الكفر، قيل كان الظاهر فما لكم لكن عدل إلى المظهر لتقريعهم، والمراد استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}.
مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أُورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقينًا بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان.
وفي قوله تعالى في الكفار: {ولا يخفف عنهم من عذابها} إيماء إلى أن نار عقاب المؤمنين خفيفة عن نار المشركين.
فجملة {والذين كفروا} معطوفة على جملة {جنات عدن يدخلونها} [فاطر: 33].
ووقع الإِخبار عن نار جهنم بأنها {لهم} بلام الاستحقاق للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم كقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} في سورة البقرة (24) وقوله: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} في سورة آل عمران (131)، فنار عقاب عصاة المؤمنين نار مخالفة أو أنها أعدت للكافرين.
وإنما دخل فيها من أدخل من المؤمنين الذين ظلموا أنفسهم لاقترافهم الأعمال السيئة التي شأنها أن تكون للكافرين.
وقدم المجرور في لهم نار جهنم على المسند إليه للتشويق إلى ذكر المسند إليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن.
وجملة {لا يقضى عليهم} بدل اشتمال من جملة {لهم نار جهنم}، والقضاء: حقيقته الحكم، ومنه قضاء الله حكمه وما أوجده في مخلوقاته.
وقد يستعمل بمعنى أماته كقوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص: 15].
وهو هنا محتمل للحقيقة، أي لا يقدرُ الله موتهم، فقوله: {فيموتوا} مسبب على القضاء.
والمعنى: لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا، ومحتمل للمجاز وهو الموت.
وتفريع {فيموتوا} على هذا الوجه أنهم لا يموتون إلا الإِماتة التي يتسبب عليها الموت الحقيقي الذي يزول عنده الإِحساس، فيفيد أنهم يُماتون مَوتًا ليس فيه من الموت إلا آلامه دون راحته، قال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [الزخرف: 77] وقال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56].
وضمير {عذابها} عائد إلى جهنم ليشمل ما ورد من أن المعذبين يعذبون بالنار ويعذبون بالزمهرير وهو شدة البرد وكل ذلك من عذاب جهنم.
ووقع {كذلك} موقع المفعول المطلق لقوله: {نجزي} أي نجزيهم جزاء كذلك الجزاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} في سورة البقرة (143).
وجملة {كذلك نجزي كل كفور} تذييل.